Express Radio Le programme encours
لكننا وجدناهم بالقرب منا هنا بين سبخة السيجومي بالعاصمة ومنتزه المروج 2، يتوزعون عشوائيا على أرض شاسعة ممتدة الأطراف، تعود ملكيتها للدولة وتتخذ منها بلدية الجهة مكانا للتخلص من النفايات أحياناً ومن فضلات البناء أحياناً أخرى.
هي عائلات اتخذت من فضاء متروك مسكنها وملاذها الوحيد في حر الصيف وقرّ الشتاء على ضفة السبخة التي لطالما كانت من أولويات الساسة في حملاتهم الإنتخابية، يبيعون من خلالها الوهم للحالمين، فبين من أراد تحويلها إلى أكبر منتجع اقتصادي وبين من قال إنه سيحولها إلى “ديزناي لاند” تونس، وآخرون وعدوا بتحويلها إلى مدينة رياضية ضخمة.
أحلام بقيت حبرًا على ورق راح ضحيتها مواطنون تونسيون سقطت ملفاتهم سهوًا أو عمدا من اهتمام المسؤولين البلديين المنتخبين.
زرناهم في المروج 2 وعشنا معهم يومًا من حياة ليست كالحياة.
تشير الساعة إلى العاشرة صباحا، يوم شتوي بارد سبقته ليلة ممطرة طويلة، تنقلنا من إحدى المدن المجاورة إلى الطريق الرابطة بين المنطقة الصناعية بالمغيرة وحي ابن سينا.
نحن باتجاه عالم موازٍ صنعه السكان بأنفسهم منذ تنقّلهم من ولاية القصرين على الحدود الجزائرية شمال غربي البلاد، ليستقروا هنا منذ سنة 2004 وأسسوا لأنفسهم حياة أخرى في هذه الأرض القريبة من الحي السكني.
تقدمنا لنجد أنفسنا بعد أمتار قليلة من الطريق السيارة بين أكواخ بُنيت ببقايا خشب ومعادن متآكلة، التقينا بمحمد وزوجته سارة أول سكان المكان، حدثتنا قائلة سارة قائلة “نعيش هنا منذ سنوات لم نعد نذكر عددها، أنا وزوجي وطفلينا اللذين أنجبتهما هنا بين بقايا الأخشاب، وأنا الآن حامل في الشهر السادس بابني الثالث الذي لا أعلم جنسه بعد، يعمل زوجي في جمع البلاستيك وقطع غيار السيارات المستعملة لبيعها حتى نتمكن من توفير مبلغ يكفي خلاص حضانة “طفلينا في الرياض القريبة منا وبالكاد نستطيع توفير مبلغ زهيد لتغطية مصاريفنا اليومية البسيطة”.
عديد العائلات التي تربط بينها قرابة هي في الأصل علاقة أخوة وأبناء عم، قدموا باحثين عن ظروف عيش كريمة.. واتخذوا من هذا المكان مسكنا ومن رعي الأغنام وجمع فضلات البلاستيك والمعادن القابلة للرسكلة عملا يوميا رسميا لهم.
وتواصل محدثتنا قائلة “لا علاقة لنا بما يحيط بنا، نحن في عزلة عّما يجري من حولنا، أما عن المسؤولين فتوجهنا إليهم مرارا وتكرارا للبحث عن حلول بديلة، ولم يجدوا منها سوى طردنا”، مضيفة “أي يحبونا نبعدو من هنا، قالولنا ارجعوا لبلادكم”.
سارة وعائلتها كغيرها من العائلات التي تتكون من أب وأم وثلاثة إلى أربعة أطفال لا تتوفر لهم أدنى مقومات العيش الكريم، وسط غياب أبسط ضروريات الحياة، كمياه الشرب وشبكات التطهير، وهو ما جعلهم يتكبدون مشاق عدة لمقاومة ظروف العيش الشديدة التي لا تتغير على امتداد السنة”.
واصلنا التجول في المكان مع سارة بين الأكواخ، فحدثتنا عن مشقات تتكبدها من الولادة والعلاج ومشاكل التمتع بحق الصحة العمومية، فهي قد اعتادت على الولادة في كوخها ككل النساء اللاتي تتقاسمن المعاناة على تلك الأرض منذ سنوات.
وبينما كُنت غارقة في هول ما أرى من مشاهد فقر مدقع وطريقة عيش بدائية، اقتربت مني امرأة تسكن الكوخ المجاور لسارة “مرحبا هل تبحثين عن حليب الناقة ؟ نعم لدينا إن أردت “وسرعان ما أخبرتها سارة عن سبب تواجدي بينهم فتغيرت ملامحها وعلا صوتها قائلة “نحن لا نملك شيئا.. ولايهتم بنا الرئيس ولا الحكومة فنحن لا نشارك في الانتخابات، نحن المنسيون”.
أخبرتها أن مهمتي التعرف إليهم وإيصال صوتهم فهدأت قليلا ثم تابعث حديثها “يمكنك معاينة الوضع نحن 15 عائلة موزعين على أكثر من 15 كوخا بطريقة عشوائية، نحن نبحث فقط عن عيش كريم”.
رحمة التي تبلغ من العمر 26 سنة، قبلت أن تتحدث عن الوضعية التي تعيشها عائلتها وبقية العائلات فتقول “حتى في حال مرض أحد أفراد العائلة نحن لا نتمتع بخدمات الصحة المجانية أو حتى الأسعار الرمزية كغيرنا من المواطنين في مراكز الصحة العمومية، فمجرد التسجيل بالمستشفى لتلقي فحص بسيط يكلفنا عشرة دنانير دون الحديث عن خدمات التصوير بالأشعة باهضة الثمن أو الأدوية التي نقتنيها من الصيدليات”.
رحمة وسارة كغيرهم من سكان المنطقة حاولوا مرارا وتكرارا استخراج بطاقات العلاج المجاني لكنها عملية إدارية تتطلب توفر شهادة الإقامة التي تفرض بدورها توفر فاتورة ماء أو كهرباء والحال أنه وكما تقول سارة “لا ماء لاضوء لا طريق”، نحن نستعين ليلا بالشموع والمحركات التي تعمل ببطاريات الكهرباء لإنارة أكواخنا.
رحمة بدورها عاشت في كوخ مهترئ منذ طفولتها والآن هي تبحث عن حلول لإنقاذ أطفالها من براثن الفقر والخصاصة لكن دون جدوى فحتى مسؤولي الجهة لا يعيرونهم أدنى اهتمام.
انتقلنا إلى جانب سيدة كبيرة في السن كانت تجلس وحيدة وسط بقايا “الخردة “من السيارات ، علمنا أنها والدة راضية ولديها 6 أبناء منهم من تزوج واتخذ من الأكواخ المهترئة مسكنا له “نعيش هنا منذ سنوات لم تتغير وضعيتنا سوى للأسوأ، أذكر ذات مرة نشب حريق في سيارتنا واشتعل الكوخ حتى أكلت ألسنة اللهب كتب ابنتي قبل 3 أيام فقط من انطلاق امتحانات الباكالوريا احترق كل ما نملك فجأة”.
والدة رحمة أكدت لنا أنها تقدمت بشكوى لمسؤولي الجهة وراسلت المعتمد للحصول على جراية أو إعانة لكن دون مجيب “وواصلت مراسلة المسؤولين طيلة سنتين ولم يستجب أحد لأي من مطالبها بل تعرضت للمماطلة فكل مسؤول كغيره يطلب منها الاستظهار بوثائق من ولاية القصرين وفي نهاية المطاف خسرت الكوخ ورغم ذلك نجحت ابنتها في الامتحان”.
في الجانب الآخر تعيش سالمة في كوخ يكاد ينهار من شدة الرياح مع ابنتيها، تدرس إحداهن في صف الباكالوريا بينما تدرس الكبرى في إحدى الجامعات في الصف النهائي، رحبت بنا ودعتنا لزيارة الكوخ ومعاينة وضعيته. كوخ يفتقر إلى كل مقومات السلامة ومهدد بالانهيار.
تشير الأم بيدها إلى السقف لترينا مدى اهترائه قائلة: “في أيام الشتاء الممطرة نخاف أن ننام داخله فنكتفي بالاحتماء به فقط خوفا من سقوطه، ففي الليلة الفارطة مثلا لم ننم من شدة تهاطل الأمطار.. بقيت مستيقظة حتى طلوع الفجر وحين سمعت صوت شاحنة بصدد تفريغ الفضلات غادرت الكوخ علّني أحصل على بعض القوارير أبيعها وأحصل على بعض الدينارات مقابل ذلك”.
بين من يطالب بتحسين وضعيته ومن يطلب من البلدية عدم ازعاجه وطلب المغادرة مرة أخرى ليستقر نهائيا على تلك الأرض وبين من يحلم بعيش أفضل من أجل أطفاله،تختلف المطالب لكنها تلتقي في طلب عيش كريم كبقية مكونات المجتمع.
اتصلنا ببلدية الكبارية علنا نفهم مجال تدخلها في هذا الموضوع ومدى استعدادها للاستماع لمشاكل المواطنين في هذا المكان، كان لنا اتصال برئيسة الدائرة البلدية بالكبارية هادية مرواني وأكدت أن وجود العائلات على أرض تعود ملكيتها للدولة قد يسبب لهم الأذى “ففي أي وقت ستلتجأ البلدية لتلك الأرض لإنجاز مشروع تثمين النفايات أو توسعة سوق السيارات” وأقرت محدثتنا أنها لم تحاول الاتصال بهم منذ توليها المنصب سنة 2018 وأنها لا تملك معطيات حول وضعيتهم أو أعدادهم.. لكنها وعدتنا بزيارتهم قريبا.
توجهنا بمطالب سالمة وبقية العائلات إلى بلدية تونس التي تعود إليها المنطقة بالنظر لمعرفة مدى استعدادها لتحسين الوضعية وتوفير الحاجيات اللازمة في إطار صلاحياتها فهم في نهاية المطاف مواطنون تونسيون لهم حق العيش الكريم تكفله الدولة كغيرهم من المواطنين في إطار العدل والمساواة وتكافؤ الفرص.
وكان لنا اتصال برئيسة لجنة الشؤون الاجتماعية محرزية برايكي.
المروج 2: “البدو الرُحّل” مواطنون مع وقف التنفيذ Asma Mouaddeb
رئيسة لجنة الشؤون الاجتماعية ببلدية تونس محرزية البرايكي استجابت لنا وتفاعلت مع الموضوع ايجابيا وقدمت لنا الإمكانيات المتوفرة لديها ومجالات تدخلها في إطار القانون خاصة وأن مطالب العائلات كانت الحق في العيش الكريم، كما اقترحت مواصلة العمل على الموضوع ودعت العائلات لمقابلة رئيس البلدية للنظر في وضعيتهم بصفة أعمق مما يمكّنهم من ايجاد حلول جذرية ونهائية توقف معاناتهم مع الفقر والخصاصة.
البدو الرحل أو كما يطلق عليهم من جاورهم “نجع قمرة” شأنهم لم يقف حدود تدخل رئيسة الدائرة البلدية بالكبارية هادية مرواني أو رئيسة لجنة الشؤون الاجتماعية محرزية البرايكي بل حاولنا البحث مع مسؤولين آخرين للنظر في وضعيتهم علّنا نجد للحل سبيلاً.
في يوم آخر كان لنا لقاء برئيسة لجنة المرأة والأسرة وداد الدايخي والمسنين ببلدية تونس مرجع نظر بحثنا، وأعربت على استعدادها لمواصلة تتبع الملف.
وفي لقاء جمعنا بها قدمت عدة اقتراحات عملية يمكن للجميع الانتفاع بها كالبرامج والفرص التي تتوفر لدى بلدية الجهة لصالح المرأة “هذه البرامج من شأنها أن تكون نقطة بداية حياة كريمة لأكثر من 15 عائلة منها المنح الاجتماعية والمساعدات التي تتوفر لدى جمعيات المجتمع المدني بالشراكة مع السلطات المحلية”.
كما تطرقت محدثتنا إلى موضوع توفير بطاقات العلاج قائلة “يمكنهم الحصول عليها بالتنسيق مع المرشدة الاجتماعية بالمنطقة والتمتع أيضا بالدورات التكوينية المتاحة مجانا للحصول على شهادة كفاءة مهنية في مجالات متعددة كصناعة القفة أو التطريز وغيرها من الحرف تمكنهم من الحصول على قروض مصغرة لتحسين مستوى المعيشة”.
وأشارت “بإمكان وزارة المرأة بالتعاون مع بلدية تونس بعد التثبت من بطاقات الهوية ودفتر الملكية العقارية أن ترفقهم إلى قائمات السكن الاجتماعي في مرحلة أولى”.
وأضافت رئيسة لجنة المرأة والأسرة “الموضوع ليس بجديد على البلدية وكانت قد حاولت في عدة مرات التواصل معهم واقناعهم بالعودة إلى مدنهم فالأرض على ملك بلدية الجهة وستعود لها يوما ما، لكن دون جدوى”.
كذلك اقترحت رئيسة اللجنة بالتعاون مع وزارة الفلاحة إدراجهم في دورات تكوينية في مجالات فلاحية كتربية النحل وصناعة الأجبان واستغلال المواشي التي يقومون برعيها في إنتاج الحليب ومشتقاته وغيرها من البرامج المماثلة.
وتضيف :”لدينا برنامج يُعنى “بالنساء البرباشة” يُنجز بالتنسيق مع لجنة المرأة ولجنة النظافة والبيئة لفائدة النساء جامعات البلاستيك من أكداس النفايات يمكن أن نوفر لهم قفازات ومعدات لجمع البلاستيك، والمواد القابلة للرسكلة وبالتالي يمكنهم أن يواصلوا عملهم في إطار منظم وآمن خاصة وأن ظروف جمع البلاستيك عادة ما تكون خطرة”.
هي حلول جيدة لكنها تتطلب وقتا نظرا لتداخل المهام بين مصالح الصحة والشؤون الاجتماعية وشؤون المرأة وغيرها، وفي المقابل طلبات العائلات الملحة لتغيير الوضعية.
فراضية تريد ضمان مستقبل أبنائها الذين مازالوا في أقسام رياض الأطفال وسارة ترغب في إنجاب طفلها في ظروف ملائمة، أما سالمة فتطالب بمأوى وعيش كريم لها ولبناتها لإنهاء دراستهم.
تحقيق هذه المطالب يبقى رهين إيفاء لجنة المرأة والأسرة ببلدية الكبارية لوعودها والتي وعدتنا بتقديم طلب لرئيس البلدية لزيارة المكان ولقاء سكان “الحي المنسي” الذين يطالبون بحقهم في الحياة المنصوص عليه في الفقرة الأولى من المادة 6 من العهد الدولي الخاص بالحقوق المدنية والسياسية، هو الحق الأعلى الذي لا يجوز الإعتداء عليه حتى في أوقات الطوارئ العامة.
والحق في الحياة نفسه مكرس أيضا في المادة 3 من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان والفصل 23 من الدستور التونسي باب الحقوق والحريات “الحق في الحياة مقدس، لا يجوز المساس به إلا في حالات قصوى يضبطها القانون”.
وهذا الحق هو الأساس الذي تقوم عليه جميع حقوق الإنسان، فهل سيتمكن “البدو الرحل” من التمتع بهذا الحق؟
سارة جلاّلي
Written by: Asma Mouaddeb